الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***
{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)} قوله: {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم} يعني بسبب ظلمهم فيعاجلهم بالعقوبة على ظلمهم وكفرهم وعصيانهم. فإن قلت الناس اسم جنس يشمل الكل وقد قال تعالى في آية أخرى {فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات} فقسمهم في تلك الآية ثلاثة أقسام فجعل الظالمين قسماً واحداً من ثلاثة. قلت: قوله ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم عام مخصوص بتلك الآية الأخرى، لأن في جنس الناس الأنبياء والصالحين ومن لا يطلق عليه اسم الظلم، وقيل: أراد بالناس الكفار فقط بدليل قوله {إن الشرك لظلم عظيم} وقوله {وما ترك عليها} يعني على الأرض كناية عن غير مذكور لأن الدابة لا تدب إلا على الأض {من دابة} يعني أن الله سبحانه وتعالى، لو يؤاخذ الناس بظلمهم لأهلك جميع الدواب التي على وجه الأرض. قال قتادة: وقد فعل الله ذلك في زمن نوح عليه السلام وروي أن أبا هريرة سمع رجلاً يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه، فقال: بئس ما قلت إن الحبارى تموت هزالاً بظلم الظالم. وقال ابن مسعود: إن الجعل تعذب في جحرها بذنب ابن آدم وقيل أراد بالدابة الكافر بدليل قوله: {إن شر الدواب عند الله الذين كفروا} وقيل في معنى الآية ولو يؤاخذ الله الآباء الظالمين بسبب ظلمهم لانقطع النسل، ولم توجد الأبناء فلم يبق في الأرض أحد {ولكن يؤخرهم} يعني يمهلهم بفضله، وكرمه وحلمه {إلى أجل مسمى} يعني إلى انتهاء آجالهم وانقضاء أعمارهم {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} يعني لا يؤخرون ساعة من الأجل الذي جعله الله لهم ولا ينقصون عنه. وقيل: أراد بالأجل المسمى يوم القيامة، والمعنى ولكن يؤخرهم إلى يوم القيامة فيعذبهم فلا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون {ويجعلون لله ما يكرهون} يعني لأنفسهم وهي البنات {وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى} يعني ويقولون: إن لهم البنين وذلك أنهم قالوا: لله البنات ولنا البنون، وهذا القول كذب منهم وافتراء على الله. وقيل: أراد بالحسنى الجنة، والمعنى أنهم مع كفرهم، وقولهم الكذب يزعمون أنهم على الحق وأن لهم الجنة وذلك أنهم قالوا: إن كان محمد صادقاً في البعث بعد الموت، فإن لنا الجنة لأنّا على الحق فأكذبهم الله فقول {لا جرم أن لهم النار} يعني في الآخرة لا الجنة {وأنهم مفرطون} قرئ بكسر الراء مع التخفيف، يعني مسرفون وقرئ بكسر الراء مع التشديد يعني مضيعون لأمر الله وقراءة الجمهور بفتح الراء مع تخفيفها أي منسيون في النار قاله ابن عباس وقال سعيد بن جبير ومقاتل: متروكون. وقال قتادة: معجلون إلى النار. وقال الفراء: مقدمون إلى النار والفرط ما تقدم إلى الماء قبل القوم. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «أنا فرطكم على الحوض» أي متقدمكم {تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك} يعني كما أرسلناك إلى هذه الأمة لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك، فكان شأنهم مع رسلهم التكذيب ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم {فزين لهم الشيطان أعمالهم} يعني أعمالهم الخبيثة من الكفر والتكذيب، والمزين في الحقيقة هو الله تعالى هذا مذهب أهل السنة، وإنما جعل الشيطان آلة بإلقاء الوسوسة في قلوبهم، وليس له قدرة أن يضل أحداً أو يهدي أحداً، وإنما له الوسوسة فقط فمن أراد شقاوته سلطه عليه حتى يقبل وسوسته {فهو وليهم} أي ناصرهم {اليوم} ومن كان الشيطان وليه وناصره فهو مخذول مغلوب مقهور، وإنما سماه ولياً لهم لطاعتهم إياه {ولهم عذاب أليم} يعني في الآخرة {وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه} يعني في أمر الدين والأحكام فتبين لهم الهدى من الضلال، والحق من الباطل والحلال من الحرام {وهدى ورحمة} يعني وما أنزلنا عليك الكتاب إلا بياناً وهدى ورحمة {لقوم يؤمنون} لأنهم هم المنتفعون به قوله سبحانه وتعالى {والله أنزل من السماء ماء} يعني المطر {فأحيا به} يعني بالماء {الأرض} يعني بالنبات والزروع {بعد موتها} يعني يبسها وجدوبتها {إن في ذلك لآية} يعني دلالة واضحة على كمال قدرتنا {لقوم يسمعون} يعني سماع إنصاف وتدبر وتفكر، لأن سماع القلوب هو النافع لا سماع الآذان فمن سمع آيات الله، أي القرآن بقلبه وتدبرها وتفكر فيها انتفع، ومن لم يسمع بقلبه لم ينتفع بالآيات {وإن لكم في الأنعام لعبرة} يعني إذا تفكرتم فيها عرفتم كمال قدرتنا على ذلك {نسقيكم مما في بطونه} الضمير عائد إلى الأنعام، وكان حقه أن يقال مما في بطونها، واختلف النحوين في الجواب، فقيل: إن لفظ الأنعام مفرد وضع لإفادة الجمع فهو بحسب اللفظ مفرد فيكون ضميره ضمير الواحد، وهو مذكر وبحسب المعنى جميع فيكون ضميره ضمير الجمع، وهو مؤنث فلهذا المعنى. قال هنا مما في بطونه وقال في سورة المؤمنين: مما في بطونها. وهذا قول أبي عبيدة والأخفش وقال الكسائي: إنه رده إلى ما ذكر يعني مما في بطون ما ذكرنا، وقال غيره الكناية مردودة إلى البعض وفيه إضمار كأنه قال: نسقيكم مما في بطونه اللبن فأضمر اللبن إذ ليس لكلها لبن {من بين فرث} وهو ما في الكرش من الثفل، فإذا خرج منها لا يسمى فرثاً {ودم لبناً خالصاً} يعني من الدم والفرث ليس عليه لون الدم ولا رائحة الفرث. قال ابن عباس: إذا أكلت الدابة العلف، واستقر في كرشها، وطبخته كان أسفله فرثاً وأوسطه لبناً وأعلاه دماً فالكبد مسلطة عليه تقسمه بتقدير الله سبحانه وتعالى فيجري الدم في العروق واللبن في الضروع ويبقى الثفل كما هو {سائغاً للشاربين} يعني هنيئاً سهلاً يجري في الحلق بسهولة. قيل: إنه لم يغص أحد باللبن قط. هذا قول المفسرين في معنى هذه الآية. وحكى الإمام فخر الدين الرازي قول الحكماء في ذلك فقال: ولقائل أن يقول الدم واللبن لا يتولدان في الكرش البتة، والدليل عليه الحس فان هذه الحيوانات تذبح ذبحاً متوالياً، وما رأى أحد في كرشها دماً ولا لبناً بل الحق أن الحيوان إذا تناول الغذاء، وصل ذلك العلف إلى معدته إن كان إنساناً وإلى كرشه إن كان من الأنعام، وغيرها فإذا طبخ وحصل الهضم الأول فيه فما كان منه صافياً انجذب إلى الكبد، وما كان كثيفاً نزل إلى الأمعاء، ثم ذلك الذي حصل في الكبد ينطبخ فيها ويصير دماً وهو الهضم الثاني، ويكون ذلك مخلوطاً بالصفراء والسوداء وزيادة المائية فأما الصفراء فتذهب إلى المرارة وأما السوداء فتذهب إلى الطحال، وأما المائية فتذهب إلى الكلية ومنها إلى المثانة، وأما الدم فيذهب في الأوردة وهي العروق النابتة في الكبد وهناك يحصل الهضم الثالث. وبين الكبد وبين الضرع عروق كثيرة فينصب الدم من تلك العروق إلى الضرع والضرع لحم غددي رخو أبيض، فيقلب الله عز وجل ذلك الدم عند انصبابه إلى ذلك اللحم الغددي الرخو الأبيض، فيصير الدم لبناً فهذا صورة تكوَّن اللبن في الضرع فاللبن إنما يتولد من بعض أجزاء الدم، والدم إنما يتولد من بعض الأجزاء اللطيفة من الأشياء المأكولة الحاصلة في الكرش فاللبن توليد أولاً من الفرث ثم من الدم ثانياً ثم صفاه الله سبحانه وتعالى بقدرته فجعله لبناً خالصاً من بين فرث، ودم عند تولد اللبن في الضرع يخلق الله عز وجل بلطيف حكمته في حلمة الثدي ثقباً صغيراً ومسام ضيقة فيجعلها كالمصفاة للبن فكل ما كان لطيفاً من اللبن خرج بالمص أو الحلب وما كان كثيفاً احتبس في البدن، وهو المراد بقوله خالصاً هنيئاً مريئاً. قوله عز وجل {ومن ثمرات النخيل والأعناب} يعني ولكم أيضاً عبرة فيما نسقيكم ونرزقكم من ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه {سكراً ورزقاً حسناً} قال ابن مسعود وابن عمر والحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وإبراهيم وابن أبي ليلى والزجاج وابن قتيبة: السكر الخمر سميت بالمصدر من قولهم سكر سكراً، وسكراً والرزق الحسن سائر ما يتخذ من ثمرات النخيل، والأعناب مثل الدبس والتمر والزبيب والخل وغير ذلك. فإن قلت: الخمر محرمة فكيف ذكرها الله عز وجل في معرض الإنعام والامتنان؟ قلت: قال العلماء في الجواب عن هذا: إن هذه السورة مكية، وتحريم الخمر إنما نزل في سورة المائدة وهي مدنية فكان نزول هذه الآية في الوقت الذي كانت الخمر فيه غير محرمة، وقيل: إن الله عز وجل نبه في هذه الآية على تحريم الخمر أيضاً، لأنه ميز بينها وبين الرزق الحسن في الذكر فوجب أن يقال الرجوع عن كونه حسناً يدل على التحريم، وروى العوفي عن ابن عباس أن السكر هو الخل بلغة الحبشة وقال بعضهم: السكر هو النبيذ وهو نقيع التمر والزبيب إذا اشتد، والمطبوخ من العصير وهو قول الضحاك والنخعي ومن يبيح شرب النبيذ ومن يحرمه يقول المراد من الآية الإخبار لا الإحلال، وأولى الأقاويل أن قوله تتخذون منه سكراً منسوخ. سئل ابن عباس عن هذه الآية فقال السكر: ما حرم من ثمراتها والرزق الحسن ما حل قلت: القول بالنسخ فيه نظر لأن قوله، ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً خبر، والأخبار لا يدخلها النسخ، ومن زعم أنها منسوخة رأى أن هذه الآية نزلت بمكة في وقت إباحة الخمر ثم إن الله تبارك وتعالى حرمها بالمدينة فحكم على هذه الآية بأنها منسوخة وقال أبو عبيدة في معنى الآية: السكر الطعم يقال هذا سكر لك أي طعم لك وقال غيره: السكر ما سد الجوع من قولهم سكرت النهر أي سددته والتمر والزبيب مما يسد الجوع، وهذا شرح قول أبي عبيدة أن السكر الطعم {إن في ذلك} يعني الذي ذكر من إنعامه على عباده {لآية} يعني دلالة وحجة واضحة {لقوم يعقلون} يعني أن من كان عاقلاً استدل بهذه الآية على كمال قدرة الله تعالى ووحدانيته وعلم بالضرورة أن لهذه الأشياء خالقاً، ومدبراً قادراً على ما يريد.
{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)} قوله سبحانه وتعالى: {وأوحى ربك إلى النحل} لما ذكر الله سبحانه وتعالى دلائل قدرته، وعجائب صنعته الدالة على وحدانيته من إخراج اللبن من بين فرث، ودم وإخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل، والأعناب ذكر في هذه الآية إخراج العسل الذي جعله شفاء للناس من دابة ضعيفة، وهي النحلة فقال سبحانه وتعالى وأوحى ربك إلى النحل الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به كل فرد من الناس ممن له عقل، وتفكر يستدل به على كمال قدرة الله ووحدانيته وأنه الخالق لجميع الأشياء المدبر لها بلطيف حكمته، وقدرته وأصل الوحي الإشارة السريعة وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز، والتعريض وقد يكون بصوت مجرد ويقال للكلمة الإلهية التي يلقيها الله إلى أنبيائه وحي وإلى أوليائه إلهام وتسخير الطير لما خلق له ومنه قوله تعالى {وأوحى ربك إلى النحل} يعني أنه سخرها لما خلقها له، وألهمها رشدها وقدر في أنفسها هذه الأعمال العجيبة التي يعجز عنها العقلاء من البشر، وذلك أن النحل تبني بيوتاً على شكل مسدس من أضلاع متساوية لا يزيد بعضها على بعض بمجرد طباعها ولو كانت البيوت مدورة أو مثلثة أو مربعة، أو غير ذلك من الأشكال لكان فيما بينها خلل ولما حصل المقصود فألهمها الله سبحانه وتعالى، أن تبنيها على هذا الشكل المسدس الذي لا يحصل فيه خلل وفرجة خالية ضائعة وألهمها الله تعالى أيضاً أن تجعل عليها أميراً كبيراً نافذ الحكم فيها وهي تطيعه، وتمتثل أمره ويكون هذا الأمير أكبرها جثة وأعظمها خلقة ويسمى يعسوب النحل يعني ملكها كذا حكاه الجوهري وألهمها الله سبحانه وتعالى أيضاً أنها تخرج من بيوتها، فتدور وترعى ثم ترجع إلى بيوتها، ولا تضل عنها. ولما امتار هذا الحيوان الضعيف بهذه الخواص العجيبة، الدالة على مزيد الذكاء والفطنة دل ذلك على الإلهام الإلهي فكان ذلك شبيهاً بالوحي، فلذلك قال تبارك وتعالى: وأوحى ربك إلى النحل، والنحل زنبور العسل ويسمى الدبر أيضاً، قال الزجاج: يجوز أن يقال سمي هذا الحيوان نحلاً لأن الله سبحانه وتعالى، نحل الناس العسل الذي يخرج من بطونها بمعنى أعطاهم. وقال غيره: النحل يذكر ويؤنث وهي مؤنثة في لغة الحجاز، وكذا أنثها الله تعالى فقال {ثم كلي من كل الثمرات} يعني من بعض الثمرات لأنه لا تأكل من جميع الثمار فلفظه كل هاهنا ليست للعموم {فاسلكي سبل ربك} يعني الطرق التي ألهمك الله أن تسلكيها، وتدخلي فيها لأجل طلب الثمرات {ذللاً} قيل إنها نعت للسبل يعني أنها مذللة لكل الطرق مسهلة لك مسالكها. قال مجاهد: لا يتوعر عليها مكان تسلكه. وقيل: الذلل نعت للنحل يعني أنها مذللة مسخرة لأربابها مطيعة منقادة لهم حتى أنهم ينقلونها من مكانها إلى مكان آخر حيث شاؤوا! وأرادوا لا تستعصي عليهم {يخرج من بطونها شراب} يعني العسل {مختلف ألوانه} يعني ما بين أبيض وأحمر وأصفر وغير ذلك من ألوان العسل. وذلك على قدر ما تأكل من الثمار والأزهار، ويستحيل في بطونها عسلاً بقدرة الله تعالى ثم يخرج من أفواهها يسيل كاللعاب، وزعم الإمام فخر الدين الرازي أنه رأى في بعض كتب الطب، أن العسل طل من السماء ينزل كالترتجبين فيقع على الأزهار وأوراق الشجر فتجمعه النحل فتأكل بعضه، وتدخر بعضه في بيوتها لأنفسها لتتغذى به فإذا اجتمع في بيوتها من تلك الأجزاء الطلية شيء كثير، فذلك هو العسل وقال هذا القول أقرب إلى العقل لأن طبيعة الترنجبين تقرب من طبيعة العسل، وأيضاً فإنا نشاهد أن النحل تتغذى بالعسل وأجاب عن قوله تعالى: يخرج من بطونها بأن كل تجويف في داخل البدن يسمى بطناً، فقوله: يخرج من بطونها يعني من أفواهها، وقول أهل الظاهر أولى وأصح لأنا نشاهد أنه يوجد في طعم العسل طعم تلك الأزهار التي تأكلها النحل، وكذلك يوجد لونها وطعمها فيه أيضاً ويعضد هذا قول بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم له: أكلت مغافير؟ قال: لا. قالت: فما هذه الريح التي أجد منك؟ قال: سقتني حفصة شربة عسل. قالت: جرست نحلة العرفط. العرفط شجر الطلح، وله صمغ يقال لهم المغافير كريه الرائحة فمعنى جرست نحلة العرفط أكلت ورعت من العرفط الذي له الرائحة الكريهة، فثبت بهذا الدليل صحة أهل الظاهر من المفسرين، وأنه يوجد طعم العسل، ولونه وريحه طعم ما يأكله النحل ولونه وريحه لا ما قاله الأطباء من أنه طل لأنه لو كان طلاًّ لكان على لون واحد وطبيعة واحدة. وقله: إنه طبيعة العسل تقرب من طبيعة الترنجبين فيه نظر، لأن مزاج الترنجبين معتدل إلى الحرارة، وهو ألطف من السكر ومزاج العسل حار يابس في الدرجة الثانية فبينهما فرق كبير. وقوله: كل تجويف في داخل البدن يسمى بطناً فيه نظر، لأن لفظ البطن إذا أطلق لم يرد إلا العضو المعروف مثل بطن الإنسان، وغيره والله أعلم. وقوله تعالى {فيه} يعني في الشراب الذي يخرج من بطون النحل {شفاء للناس} وهذا قول ابن عباس وابن مسعود إذ الضمير في قوله فيه شفاء للناس، يرجع إلى العسل، وقد اختلفوا في هذا الشفاء هل هو على العموم لكل مرض، أو على الخصوص لمرض دون مرض، على قولين: أحدهما أن العسل فيه شفاء من كل داء وكل مرض، قال ابن مسعود: «العسل شفاء من كل داء والقرآن شفاء لما في الصدور» وفي رواية أخرى عنه «عليك بالشفائين القرآن والعسل» وروى نافع أن ابن عمر ما كانت تخرج به قرحة، ولا شيء إلا لطخ الموضع بالعسل ويقرأ {يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس} (ق) عن أبي سعيد الخدري قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي استطلق بطنه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اسقه عسلاً فسقاه ثم جاء فقال: إني سيقته عسلاً فلم يزده إلا إستطلاقاً فقال له: ثلاث مرات ثم جاء الرابعة: فقال: اسقه عسلاً، فقال: لقد سقيته فلم يزده إلا إستطلاقاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق الله وكذب بطن أخيك فسقاه فبرأ» وقد اعترض بعض الملحدين، ومن في قلبه مرض على هذا الحديث. فقال: إن الأطباء مجمعون على أن مسهل فكيف يوصف لمن به الإسهال فنقول في الرد على هذا المعترض الملحد الجاهل بعلم الطب أن الإسهال يحصل من أنواع كثيرة منها التخم، والهيضات، وقد أجمع الأطباء في مثل هذا على أن علاجه بأن تترك الطبيعة وفعلها، فإن احتاجت إلى معين على الإسهال أعينت ما دامت القوة باقية فأما حبسها فمضر عندهم، واستعجال مرض فيحتمل أن يكون إسهال الشخص المذكور في الحديث أصابه من امتلاء أو هيضة، فدواؤه بترك إسهاله على ما هو عليه أو تقويته فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم العسل فزاده إسهالاً فزاده عسلاً إلى أن فنيت المادة فوقف الإسهال ويكون الخلط الذي كان به يوافقه شرب العسل، فثبت بما ذكرناه أن أمره صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل بشرب العسل جار على صناعة الطب، وأن المعترض عليه جاهل لها ولسنا نقصد الاستظهار لتصديق الحديث بقول الأطباء: بل لو كذبوه لكذبناهم وكفرناهم بذلك وإنما ذكرنا هذا الجواب الجاري على صناعة الطب، دفعاً لهذا المعترض بأنه لا يحسن صناعة الطب التي اعترض بها والله أعلم وقوله صلى الله عليه وسلم: «صدق الله وكذب بطن أخيك» يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم، علم بالوحي الإلهي أن العسل، الذي أمره بشربه سيظهر نفعه بعد ذلك فلما لم يظهر نفعه في الحال عندهم قال: صدق الله يعني فيما وعد به من أن فيه شفاء وكذب بطن أخيك يعني باستعجالك للشفاء في أول مرة والله أعلم بمراده، وأسرار رسوله صلى لله عليه سلم فإن قالوا: كيف يكون شفاء للناس، وهو يضر بأصحاب الصفراء ويهيج الحرارة ويضر بالشباب المحرورين ويعطش، قلنا: في الجواب عن هذا الاعتراض أيضاً: إن قوله فيه شفاء للناس مع أنه يضر بأصحاب الصفراء، ويهيج الحرارة أنه خرج مخرج الأغلب، وأنه في الأغلب فيه شفاء، ولم يقل: إنه شفاء لكل الناس لكل داء ولكنه في الجملة دواء وإن نفعه أكثر من مضرته، وقل معجون من المعاجين إلا وتمامه به. والأشربة المتخذة من العسل نافعة لأصحاب البلغم والشيوخ المبرودين، ومنافعه كثيرة جداً، والقول الثاني: أنه شفاء للأوجاع التي شفاؤها فيه وهذا قول السدي وقال مجاهد: في قوله فيه شفاء للناس يعني القرآن لأنه شفاء من أمراض الشرك، والجهالة والضلالة وهو هدى ورحمة للناس، والقول الأول أصح لأن الضمير يجب أن يعود إلى أقرب المذكورات، وأقربها قوله تعالى يخرج من بطونها شراب وهو العسل فهو أولى أن يرجع الضمير إليه لأنه أقرب مذكور. وقوله سبحانه وتعالى {إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون} يعني فيعتبرون ويستدلون بما ذكرنا على وحدانيتنا وقدرتنا. قوله عز وجل {والله خلقكم} يعني أوجدكم من العدم وأخرجكم إلى الوجود ولم تكونوا شيئاً {ثم يتوفاكم} يعني عند انقضاء آجالكم إما صبياناً وإما شباناً وإما كهولاً {ومنكم من يرد إلى أرذل العمر} يعني أراده وأضعفه وهو الهرم قال بعض العلماء: عمر الإنسان له أربع مراتب أولها من النشوء والنماء، وهو من أول العمر إلى بلوغ ثلاث وثلاثين سنة، وهو غاية سن الشاب وبلوغ الأشد ثم المرتبة الثانية: سن الوقوف، وهو من ثلاث وثلاثين سنة إلى أربعين سنة، وهو غاية القوة وكمال العقل ثم المرتبة الثالثة: سن الكهولة، وهو من الأربعين إلى الستين، وهذه المرتبة يشرع الإنسان في النقص لكنه يكون نقصاً خفياً لا يظهر ثم المرتبة الرابعة: سن الشيخوخة والانحطاط من الستين إلى آخر العمر، وفيها يتبين النقص، ويكون الهرم والخوف. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أرذل العمر خمس وسبعون سنة. وقيل ثمانون سنة وقال قتادة تسعون سنة (ق) عن أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «اللهم أني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والهرم والبخل وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات» وفي رواية أخرى عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بهذه الدعوات: «اللهم إني أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات» وقوله تعالى: {لكيلا يعلم بعد علم شيئاً} يعني الإنسان يردع إلى حالة الطفولية بنسيان ما كان علم بسبب الكبر، وقال ابن عباس: لكي يصير كالصبي لا عقل له. وقال ابن قتيبة: معناه حتى لا يعلم بعد علمه بالأمور شيئاً لشدة هرمه. وقال الزجاج: المعنى وإن منكم من يكبر حتى يذهب عقله خرفاً فيصير بعد أن كان عالماً جاهلاً، ليريكم الله من قدرته أنه كما قدر على إماتته وإحيائه، أنه قادر على نقله من العلم إلى الجهل هكذا، وجدته منقولاً عنه ولو قال: ليريكم من قدرته أنه كما قدر على نقله من العلم إلى الجهل، أنه قادر على إحيائه بعد إماتته ليكون ذلك دليلاً على صحة هذا البعث، بعد الموت لكان أجود. قال ابن عباس: ليس هذا في المسلمين لأن المسلم لا يزداد في طول العمر والبقاء إلا كرامة عند الله وعقلاً ومعرفة. وقال عكرمة: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر حتى لا يعلم بعد علم شيئاً. وقال في قوله: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، هم الذين قرؤوا القرآن وقال ابن عباس في قوله تعالى: ثم رددناه أسفل سافلين يريد الكافرين ثم استثنى المؤمنين فقال تعالى إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات. وقوله تعالى {إن الله عليم} يعني بما صنع بأوليائه وأعدائه {قدير} يعني على ما يريد قوله تعالى {والله فضل بعضكم على بعض في الرزق} يعني أن الله سبحانه وتعالى بسط على واحد وضيق وقتر على واحد وكثر لواحد وقلل على آخر، وكما فضل بعضكم على بعض في الرزق، كذلك فضل بعضكم على بعض في الخلق والخلق والعقل والصحة والسقم والحسن، والقبح والعلم والجهل وغير ذلك. فهم متفاوتون ومتباينون في ذلك كله، وهذا مما اقتضته الحكمة الإلهية والقدرة الربانية {فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم} يعني من العبيد حتى يستووا فيه هم وعبيدهم يقول الله سبحانه وتعالى هم لا يرضون أن يكونوا هم ومماليكهم فيما رزقتهم سواء وقد جعلوا عبيدي شركائي في ملكي وسلطاني يلزم بهذه الحجة المشركين حيث جعلوا الأصنام شركاء لله قال قتادة: هذا مثل ضربه الله عز وجل. يقول: هل منكم أحد يرضى أن يشركه مملوكه في جميع ماله فكيف تعدلون بالله خلقه وعباده، وقيل: في معنى الآية أن الموالي والمماليك الله رازقهم جميعاً {فهم فيه} يعني في رزقه {سواء} فلا تحسبن أن الموالي يردون رزقهم على مماليكهم من عند أنفسهم، بل ذلك رزق الله أجراه على أيدي الموالي للمماليك، والمقصود منه بيان أن الرازق هو الله سبحانه وتعالى لجميع خلقه وأن الموالي والمماليك في الرزق سواء وأن المالك لا يرزق المملوك، بل الرازق للمماليك والمالك هو الله سبحانه وتعالى. وقوله {أفبعنمة الله يجحدون} فيه إنكار على المشركين حيث جحدوا نعمته وعبدوا غيره.
{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73)} قوله عز وجل: {والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً} يعني النساء فخلق من آدم حواء زوجته وقيل: جعل لكم من جنسكم أزواجاً لأنه خطاب عام يعم الكل فتخصيصه بآدم وحواء خلاف الليل {وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة} الحفدة جمع حافد وهو المسرع في الخدمة المسارع إلى الطاعة ومنه قوله في الدعاء «وإليك نسعى ونحفد» أي نسرع إلى طاعتك، فهذا أصله في اللغة ثم اختلفت أقوال المفسرين فيهم فقال ابن مسعود والنخعي: الحفدة أختان الرجل على بناته وعن ابن مسعود أيضاً، أنه أصهاره فهو بمعنى الأول فعلى هذا القول، يكون معنى الآية وجعل لكم من أزواجكم بنين وبنات، فزوجوهم فيجعل لكم بسببهم الأختان والأصهار. وقال الحسن وعكرمة والضحاك: هم الخدم. وقال مجاهد: هم الأعوان وكل من أعانك قد حفدك وقال عطاء: هم ولد الرجل الذين يعينونه ويخدمونه وقيل: هم أهل المهنة الذين يمتهنون ويخدمون من الأولاد وقال مقاتل والكلبي: البنين هم الصغار والحفدة كبار الأولاد الذي يعينون الرجل على عمله، وقال ابن عباس: هم ولد الولد. وفي رواية آخرى عنه أنهم بنو امرأة الرجل الذين ليسوا منه وكل هذه الأقوال متقاربة لأن اللفظ يحتمل الكل بحسب المعنى المشترك، وبالجملة فإن الحفدة هم غير البنين، لأن الله سبحانه وتعالى قال: بنين وحفدة فجعل بينهما مغايرة {ورزقكم من الطيبات} يعني النعم التي أنعم عليكم من أنواع الثمار والحبوب والحيوان، والأشربة المستطابة الحلال من ذلك كله {أفبالباطل يؤمنون} يعني بالأصنام وقيل: بالشيطان يؤمنون وقيل: معناه يصدقون أن لي شريكاً وصاحبة وولداً وهذا استفهام إنكار أي ليس لهم ذلك {وبنعمة الله هم يكفرون} يعني أنهم يضيفون ما أنعم الله به عليهم إلى غيره، وقيل معناه إنهم يجحدون ما أحل الله لهم {ويبعدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقاً من السموات والأرض} يعني الأصنام التي لا تقدر على إنزال المطر الذي في السموات خزائنه، ولا يقدرون على إخراج النبات الذي في الأرض معدنه {شيئاً} يعني لا يملك من الرزق شيئاً قليلاً ولا كثيراً، وقيل معناه يعبدون ما لا يرزق شيئاً {ولا يستطيعون} يعني ولا يقدرون على شيء يذكر عجز الأصنام عن ايصال نفع أو دفع ضر.
{فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَم لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)} {فلا تضربوا لله الأمثال} يعني لا تشبهوا الله بخلقه فإنه لا مثل له ولا شبيه ولا شريك من خلقه، لأن الخلق كلهم عبيده، وفي ملكه فكيف يشبه الخالق بالمخلوق، أو الرازق بالمرزوق، أو القادر بالعاجز {إن الله يعلم} يعني ما أنتم عليه من ضرب الأمثال له {وأنتم لا تعلمون} خطأ ما تضربون له من الأمثال. قوله تعالى {ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقاً حسناً} لما نهاهم الله سبحانه وتعالى عن ضرب الأمثال، لقلة علمهم ضرب هو سبحانه وتعالى لنفسه مثلاً، فقال تعالى: مثلكم في إشراككم بالله الأوثان، كمثل من سوّى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف وبين حر كريم مالك قادر، قد رزقه الله مالاً فهو يتصرف فيه، وينفق منه كيف يشاء، فصريح العقل يشهد بأنه لا تجوز التسوية بينهما في التعظيم والإجلال، فلما لم تجز التسوية بينهما مع استوائهما في الخلقة والصورة البشرية، فكيف يجوز للعقل أن يسوي بين الله عز وجل الخالق القادر على الرزق والإفضال وبين الأصنام التي لا تملك ولا تقدر على شيء البتة؟ وقيل: هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر المراد بالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء هو الكافر، لأنه لما كان محروماً من عبادة الله وطاعته صار كالعبد الذليل الفقير العاجز الذي لا يقدر على شيء، وقيل: إن الكافر لما رزقه الله مالاً فلم يقدم فيه خيراً صار كالعبد الذي لا يملك شيئاً، والمراد بقوله ومن رزقناه منا رزقاً حسناً، المؤمن لأنه لما اشتغل بطاعة الله وعبوديته والإنفاق في وجوه البر والخير صار كالحر المالك الذي ينفق سراً وجهراً في طاعة الله، وابتغاء مرضاته وهو قوله سبحانه وتعالى {فهو ينفق منه سراً وجهراً} فأثابه الله الجنة على ذلك. فإن قلت: لم قال عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء، وكل عبد هو مملوك وهو غير قادر على التصرف؟ قلت: إنما ذكر المملوك ليتميز من الحر لأن اسم العبد يقع عليهما جميعاً لأنهما من عباد الله، وقوله: لا يقدر على شيء احترز به عن المملوك المكاتب والمأذون له في التصرف، لأنهما يقدران على التصرف واحتج الفقهاء بهذه الآية على أن العبد لا يملك شيئاً {هل يستوون} ولم يقل هل يستويان يعني هل يستوي الأحرار والعبيد، والمعنى كما لا يستوي هذا الفقير البخيل، والغني السخي كذلك لا يستوي الكافر العاصي، والمؤمن الطائع، وقال عطاء في قوله: عبداً مملوكاً هو أبو جهل بن هشام ومن رزقناه منا رزقاً حسناً، هو أبو بكر الصديق ثم قال تعالى {الحمد لله} حمد الله نفسه لأنه المستحق لجميع المحامد لأنه المنعم المتفضل على عباده، وهو الخالق الرازق لا هذه الأصنام التي عبدها هؤلاء، فإنها لا تستحق الحمد لأنها جماد عاجز، لا يد لها على أحد ولا معروف، فتحمد عليه إنما الحمد الكامل لله لا لغيره فيعجب على جميع العباد، حمد الله لأنه أهل الحمد والثناء الحسن {بل أكثرهم} يعني الكفار {لا يعلمون} يعني أن الحمد لله لا لهذه الأصنام {وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم} هو الذي ولد أخرس فكل أبكم أخرس وليس كل أخرس أبكم، والأبكم الذي لا يفهم ولا يفهم {لا يقدر على شيء} هو إشارة إلى العجز التام والنقصان الكامل، {وهو كل على مولاه} أي ثقيل على من يلي أمره ويعوله وقيل أصله من الغلظ وهو نقيض الحدة، يقال كل السكين إذا غلظت شفرته وكل اللسان إذا غلظ فلم يقدر على النطق، وكل فلان عن الأمر إذا ثقل عليه فلم ينبعث فيه، فقوله وهو كل على مولاه أي غليظ ثقيل على مولاه {أينما يوجهه} اي حيثما يرسله ويصرفه في طلب حاجة أو كفاية مهم {لا يأت بخير} يعني لا يأت بجنح لأنه أخرس عاجز لا يحسن ولا يفهم {هل يستوي} يعني من هذه صفته {هو} يعني صاحب هذه الصفات المذمومة {ومن يأمر بالعدل} يعني ومن هو سليم الحواس نفاع ذو كفايات ذو رشد وديانة يأمر الناس بالعدل والخير {وهو} في نفسه {على صراط مستقيم} يعني على سيرة صالحة ودين قويم، فيجب أن يكون الآمر بالعدل، عالماً قادراً مستقيماً في نفسه حتى يتمكن من الأمر بالعدل، وهذا مثل ثان ضربه الله لنفسه، ولما يفيض على عباده من إنعامه ويشملهم به من آثار رحمته وألطافه وللأصنام التي هي أموات جماد، لا تضر ولا تنفع ولا تسمع ولا تنطق ولا تعقل، وهي كل على عابديها، لأنها تحتاج إلى كلفة الحمل والنقل والخدمة. وقيل: كلا المثلين للمؤمن والكافر، والمؤمن: هو الذي يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم. والكافر: هو الأبكم الثقيل الذي لا يأمر بخير فعلى هذا القول تكون الآية على العموم في كل مؤمن وكافر. وقيل: هي على الخصوص فالذي يأمر بالعدل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على صراط مستقيم. والذي يأمر بالظلم وهو أبكم أبو جهل. وقيل: الذي يأمر بالعدل عثمان بن عفان، وكان له مولى يأمره بالإسلام وذلك المولى يأمر عثمان بالإمساك عن الإنفاق في سبيل الله تعالى، فهو الذي لا يأت بخير. وقيل: المراد بالأبكم الذي لا يأت بخير أبي بن خلف، وبالذي يأمر العدل حمزة وعثمان بن عفان، وعثمان بن مظعون {ولله غيب السموات والأرض} أخبر الله عز وجل في الآية عن كمال علمه، وأنه عالم بجميع الغيوب، فلا تخفى عليه خافية ولا يخفى عليه شيء منها، وقيل الغيث هنا هو علم قيام الساعة وهو قوله {وما أمر الساعة} يعني في قيامها، والساعة هي الوقت الذي يقوم الناس فيه لموقف الحساب {إلا كلمح البصر} يعني في السرعة، ولمح البصر هو انطبقا جفن العين وفتحه وهو طرف العين أيضاً {أو هو أقرب} يعني أن لمح البصر يحتاج إلى زمان وحركة، والله سبحانه وتعالى إذا أراد شيئاً قال له: كن فيكون في أسرع من لمح البصر وهو قوله {إن الله على كل شيء قدير} فيه دليل على كمال قدرة الله تعالى وأنه سبحانه وتعالى مهما أراد شيئاً كان أسرع ما يكون. قال الزجاج: ليس المراد أن الساعة تأتي في أقرب من لمح البصر، ولكنه سبحانه وتعالى وصف سرعة القدرة على الإتيان بها متى شاء، لا يعجزه شيء.
{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)} قوله عز وجل: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً} تم الكلام هنا لأن الإنسان خلق في أول الفطرة، ومبدئها خالياً عن العلم والمعرفة لا يهتدي سبيلاً ثم ابتدأ فقال تعالى {وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة} يعني أن الله سبحانه وتعالى إنما أعطاكم هذه الحواس لتنتقلوا بها من الجهل إلى العلم، فجعل لكم السمع لتسمعوا به نصوص الكتاب، والسنة وهي الدلائل السمعية لتستدلوا بها على ما يصلحكم في أمر دينكم، وجعل لكم الأبصار لتبصروا بها عجائب مصنوعاته، وغرائب مخلوقاته، فتستدلوا بها على وحدانيته. وجعل لكم الأفئدة لتعقلوا بها، وتفهموا معاني الأشياء التي جعلها دلائل وحدانيته، وقال ابن عباس: في هذه الآية يريد لتسمعوا مواعظ الله وتبصروا ما أنعم الله به عليكم من إخراجكم من بطون أمهاتكم، إلى أن صرتم رجالاً وتعقلوا عظمة الله، وقيل في معنى الآية: والله خلقكم في بطون أمهاتكم وسواكم وصوركم، ثم أخرجكم من الضيق إلى السعة، وجعل لكم الحواس آلات: لإزالة الجهل الذي ولدتم عليه واجتلاب العلم والعمل به، من شكر المنعم وعبادته، والقيام بحقوقه والترقي إلى ما يسعدكم به في الآخرة. فإن قلت: ظاهر الآية يدل على أن جعل الحواس الثلاث بعد الإخراج من البطون، وإنما خلقت هذه الحواس للإنسان من جملة خلقه، وهو في بطن أمه. قلت: ذكر العلماء أن تقديم الإخراج، وتأخير ذكر هذه الحواس لا يدل على أن خلقها كان بعد الإخراج لأن الواو لا توجب الترتيب ولأن العرب تقدم وتؤخر في بعض كلامها. وأقول لما كان الانتفاع بهذه الحواس بعد الخروج من البطن، فكأنما خلقت في ذلك الوقت الذي ينتفع بها فيه وإن كانت قد خلقت قبل ذلك. وقوله تعالى {لعلكم تشكرون} يعني إنما أنعم عليكم بهذه الحواس لتستعملوها في شكر من أنعم بها عليكم {ألم يروا إلى الطير مسخرات} يعني مذللات {في جو السماء} الجو الفضاء الواسع بين السماء والأرض وهو الهواء. قال كعب الأحبار: إن الطير ترتفع في الجو اثني عشر ميلاً ولا ترتفع فوق ذلك {ما يمسكهن إلا الله} يعني في حال قبض أجنحتها وبسطها واصطفاقها في الهواء، وفي هذا حيث على الاستدلال بها على أن لها مسخراً سخرها، ومذللاً ذللها، وممسكاً أمسكها في حال طيرانها ووقوفها في الهواء، وهو الله تعالى {إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون} إنما خص المؤمنين بالذكر، لأنهم هم الذين يعتبرون بالآيات ويتفكرون فيها وينتفعون بها دون غيرهم. قوله سبحانه وتعالى {والله جعل لكم من بيوتكم} يعني التي هي من الحجر والمدر {سكناً} يعني مسكناً تسكنونه، والسكن ما سكنت إليه وفيه من ألف أو بيت {وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً} يعني الخيام والقباب والأخبية، والفساطيط المتخذة من الأدم والأنطاع. واعلم أن المساكن على قسمين: أحدهما: ما لم يمكن نقله من مكان إلى مكان آخر، وهي البيوت المتخذة من الحجارة والخشب ونحوهما، والقسم الثاني: ما يمكن نقله من مكان إلى آخر وهي الخيام والفساطيط المتخذة من جلود الأنعام، وإليها الإشارة بقوله تعالى {تستخفونها} يعني يخف عليكم حملها {يوم ظعنكم} يعني في يوم سيركم ورحيلكم في أسفاركم وظعن البادية هو لطلب ماء أو مرعى، نحو ذلك {ويوم إقامتكم} يعني وتخف عليكم أيضاً في إقامتكم وحضركم، والمعنى: لا تثقل عليكم في الحالتين {ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها} الكناية عائدة إلى الأنعام، يعني ومن أصواف الضأن، وأوبار الإبل وأشعار المعز {أثاثاً} يعني تتخذون أثاثاً. الأثاث. متاع البيت الكبير، وأصله من أث إذا كثر وتكاثف، وقيل للمال أثاث إذا كثر. قال ابن عباس: أثاثاً يعني مالاً: وقال مجاهد: متاعاً. وقال القتيبي: الأثاث المال أجمع من الإبل والغنم والعبيد والمتاع. وقال غيره الأثاث هو متاع البيت من الفرش والأكسية ونحو ذلك {ومتاعاً} يعني وبلاغاً وهو ما يتمتعون به {إلى حين} يعني إلى حين يبلى ذلك الأثاث، وقيل: إلى حين الموت. فإن قلت: أي فرق بين الأثاث والمتاع حتى ذكره بواو العطف، والعطف يوجب المغايرة فهل من فرق؟. قلت: الأثاث ما كثر من آلات البيت وحوائجه وغير ذلك فيدخل فيه جميع أصناف المال، والمتاع ما ينتفع به في البيت خاصة فظهر الفرق بين اللفظتين والله أعلم.
{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)} {والله جعل لكم مما خلق ظلالاً} يعني جعل لكم ما تستظلون به من شدة الحر والبرد، وهي ظلال الأبنية والجدران والأشجار {وجعل لكم من الجبال أكناناً} جمع كن وهو ما يستكن فيه من شدة الحر والبرد، كالأسراب والغيران ونحوها وذلك لأن الإنسان إما أن يكون غنياً أو فقيراً، فإذا سافر احتاج في سفره ما يقيه من شدة الحر والبرد فأما الغني فيستصحب معه الخيام في سفره، ليستكن فيها وإليه الإشاره بقوله {وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً} وأما الفقير فيستكن في ظلال الأشجار والحيطان والكهوف ونحوها، وإليه الإشارة بقوله والله جعل لكم مما خلق ظلالاً وجعل لكم من الجبال أكناناً ولأن بلاد العرب شديدة الحر، وحاجتهم إلى الضلال وما يدفع شدته وقوته أكثر فلهذا السبب ذكر الله هذه المعاني في معرض الامتنان عليهم بها، لأن النعمة عليهم فيها ظاهرة {وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر} يعني وجعل لكم قمصاً وثياباً من القطن والكتان والصوف وغير ذلك، تمنعكم من شدة الحر قال أهل المعاني والبرد فاكتفى بذكر أحدهما لدلالة الكلام عليه {وسرابيل تقيكم بأسكم} يعني الدروع والجواشن وسائر ما يلبس في الحرب من السلاح، والبأس الحرب يعني تقيكم في بأسكم السلاح أن يصيبكم. قال عطاء الخراساني: إنما نزل القرآن على قدر معرفتهم فقال تعالى وجعل لكم من الجبال أكناناً، وما جعله لهم من السهول أعظم وأكثر، ولكنهم كانوا أصحاب جبال كما قال ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها وما جعل لهم من القطن والكتاب أكثر، ولكن كانوا أصحاب صوف ووبر وشعر، وكما قال تعالى {وينزل من السماء من جبال فيها من برد} وما أنزل من الثلج أكثر، ولكنهم كانوا لا يعرفون الثلج وقال تقيكم الحر وما جعل لهم مما يقي من البرد أكثر ولكنهم كانوا أصحاب حر. وقوله سبحانه وتعالى {كذلك} يعني كما أنعم عليكم بهذه النعم {يتم نعمته عليكم} يعني نعم الدنيا والدين {لعلكم تسلمون} يعني لعلكم يا أهل مكة تخلصون لله الوحدانية والربوبية والعبادة والطاعة وتعلمون، أنه لا يقدر على هذه الإنعامات إلا الله تعالى {فإن تولو} يعني فإن أعرضوا عن الإيمان بك وتصديقك يا محمد وآثروا ما هم فيه من الكفر واللذات الدنيوية، فإنما وبال ذلك عليهم لا عليك {فإنما عليك البلاغ المبين} يعني ليس عليك في ذلك عتب، ولا سمة تقصير إنما عليك البلاغ، وقد فعلت ذلك ثم ذمهم الله تعالى بقوله {يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها} قال السدي: نعمة الله يعني محمداً صلى الله عليه وسلم أنكروه وكذبوه. وقيل: نعمة الله هي الإسلام لأنه من أعظم النعم التي أنعم الله بها على عباده، ثم إن كفار مكة أنكروه وجحدوه، وقال مجاهد وقتادة: نعمة الله ما عدد عليهم في هذه السورة من النعم يقرون بأنها من الله، ثم إذا قيل لهم: صدقوا وامتثلوا أمر الله فيها ينكرونها ويقولون ورثناها عن آبائنا. وقال الكلبي: إنه لما ذكر هذه النعم قالوا: هذه نعم كلها من الله تعالى لكنهم بشفاعة آلهتنا وقيل هو قول الرجل لولا فلان لكان كذا ولولا فلان لما كان كذا وقيل إنهم يعترفون بأن الله أنعم بهذه النعم، ولكنهم لا يستعملونها في طلب رضوانه ولا يشكرونه عليها {وأكثرهم الكافرون} إنما قال الله سبحانه وتعالى أكثرهم الكافرون مع أنهم كانوا كلهم كافرين، لأنه كان فيهم من لم يبلغ بعد حد التكليف فعبر بالأكثر عن البالغين، وقيل: أراد بالأكثر الكافرين الحاضرين المعاندين، وقد كان فيهم من ليس بمعاند وإن كان كافراً وقيل إنه عبر بالأكثر عن الكل لأنه قد يذكر الأكثر، ويراد به الجمع قوله سبحانه وتعالى {ويوم نبعث من كل أمة شهيداً} لما ذكر الله سبحانه وتعالى نعمه على الكافرين وإنكارهم لها، وذكر أن أكثرهم كافرون، أتبعه بذكر الوعيد لهم في الآخرة فقال تعالى: {ويوم نبعث من كل أمة شهيداً} يعني رسولاً وذلك اليوم، هو يوم القيامة والمراد بالشهداء: الأنبياء يشهدون على أممهم بإنكار نعم الله عليهم وبالكفر {ثم لا يؤذن للذين كفروا} يعني في الاعتذار وقيل لا يؤذن لهم في الكلام أصلاً. وقيل لا يؤذن لهم بالرجوع إلى دار الدنيا فيعتذروا ويتوبوا وقيل: لا يؤذن لهم في معارضة الشهود بل يشهدون عليهم ويقرونهم على ذلك {ولا هم يستعتبون} الاستعتاب: طلب العتاب، والمعتبة: هي الغلظة والموجدة التي يجدها الإنسان في نفسه على غيره، والرجل إنما يطلب العتاب من خصمه ليزيل ما في نفسه عليه من الموجدة والغضب، ويرجع إلى الرضا عنه وإذ لم يطلب العتاب منه دل ذلك على أنه ثابت على غضبه عليه، ومعنى الآية: أنهم لا يكلفون أن يرضوا ربهم في ذلك اليوم، لأن الآخرة ليست دار غضبه عليه، ومعنى الآية أنهم لا يكلفون أن يرضوا ربهم في ذلك اليوم لأن الآخرة ليست دار تكليف ولا يرجعون إلى الدنيا فيتوبوا ويرجعوا يرضوا ربهم فالاستعتاب: التعرض لطلب الرضا، وهذا باب مسند على الكفار في الآخرة {وإذا رأى الذين ظلموا} يعني ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي {العذاب} يعني عذاب جهنم {فلا يخفف عنهم} يعني العذاب {ولا هم ينظرون} يعني لا يؤخرون ولايمهلون {وإذا رأى الذين أشركوا} يعني يوم القيامة {شركاءهم} يعني أصنامهم التي كانوا يعبدونها في الدنيا {قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك} يعني أرباباً وكنا نعبدهم ونتخذهم آلهة {فألقوا} يعني الأصنام {إليهم} يعني إلى عابديها {القول إنكم لكاذبون} يعني أن الأصنام قالت للكفار: إنكم لكاذبون يعني في تسميتنا آلهة وما دعوناكم إلى عبادتنا. فإن قلت: الأصنام جماد لا تتكلم فكيف يصح منها الكلام؟. قلت: لا يبعد أن الله سبحانه وتعالى لما بعثها، وأعادها في الآخرة، خلق فيها الحياة والنطق والعقل حتى قالت ذلك. والمقصود من إعادتها وبعثها، أن تكذب الكفار ويراها الكفار وهي في غاية الذلة والحقارة، فيزدادون بذلك غماً وحسرة {وألقوا} يعني المشركين {إلى الله يؤمئذ السلم} يعني أنهم استسلموا له، وانقادوا لحكمه فيهم ولم تغن عنهم آلهتهم شيئاً {وضل عنهم} يعني وزال عن المشركين {ما كانوا يفترون} يعني ما كانوا يكذبون في الدنيا في قولهم، إن الأصنام تشفع لهم {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله} يعني ضموا مع كفرهم أنهم منعوا الناس عن الدخول في الإيمان بالله ورسوله {زدناهم عذاباً فوق العذاب} يعني زدناهم هذه الزيادة بسبب صدهم عن سبيل الله مع ما يستحقونه من العذاب على كفرهم الأصلي، واختلفوا في هذه الزيادة ما هي فقال عبد الله بن مسعود: عقارب لها أنياب، كأمثال النخل الطوال. وقال سعيد بن جبير: حيات كالبخت وعقارب أمثال البغال، تلسع إحداهن اللسعة، فيجد صاحبها ألمها أربعين خريفاً. وقال ابن عباس ومقاتل: يعني خمسة أنهار من صفر مذاب كالنار تسيل يعذبون بها ثلاثة على مقدار الليل واثنان على مقدار النهار، وقيل: إنهم يخرجون من حر النار إلى برد الزمهرير فيبادرون من شدة الزمهرير إلى النار مستغيثين بها وقيل: يضاعف لهم العذاب ضعفاً بسبب كفرهم وضعفاً بسبب صدهم الناس عن سبيل الله {بما كانوا يفسدون} يعني أن الزيادة إنما حصلت لهم بسبب صدهم عن سبيل الله، وبسبب ما كانوا يفسدون مع ما يستحقونه من العذاب على الكفر.
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} {ويوم نبعث في كل أمة شهيداً عليهم} قال ابن عباس: يريد الأنبياء. قال المفسرون: كل نبي شاهد على أمته وهو أعدل شاهد عليها {من أنفسهم} يعني منهم لأن كل نبي إنما بعث من قومه الذين بعث إليهم ليشهدوا عليهم وبما فعلوا من كفر وإيمان وطاعة وعصيان {وجئنا بك} يا محمد {شهيداً على هؤلاء} يعني على قومك وأمتك وتم الكلام هنا ثم قال تبارك وتعالى {ونزلنا عليك الكتاب} يعني القرآن {تبياناً لكل شيء} اسم من البيان قال مجاهد: يعني لما أمر به وما نهى عنه. وقال أهل المعاني: تبياناً لكل شيء يعني من أمور الدين إما بالنص عليه أو بالإحالة على ما يوجب العلم به من بيان النبي صلى الله عليه سلم لأن النبي صلى الله عليه سلم بيَّن ما في القرآن من الأحكام والحدود والحلال والحرام، وجميع المأمورات والمنهيات وإجماع الأمة فهو أيضاً أصل ومفتاح لعلوم الدين {وهدى} يعني من الضلالة {ورحمة} يعني لمن آمن به وصدقه {وبشرى للمسلمين} يعني وفيه بشرى للمسلمين من الله عز وجل. وقوله سبحانه وتعالى {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} قال ابن عباس: العدل شهادة أن لا إله إلا الله والإحسان أداء الفرائض. وفي رواية عنه قال: العدل خلع الأنداد، والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه وأن تحب للناس ما تحب لنفسك إن كان مؤمناً تحب أن يزداد إيماناً، وإن كان كافراً تحب أن يكون أخاك في الإسلام. وقال في رواية أخرى عنه: العدل التوحيد والإحسان الإخلاص، وأصل العدل في اللغة المساواة في كل شيء من غير زيادة في شيء ولا غلو ولا نقصان فيه، ولا تقصير فالعدل هو المساواة في المكافأة إن خيراً فخير، وإن شراً فشر والإحسان أن تقابل الخير بأكثر منه والشر بأن تعفوا عنه: وقيل: العدل الإنصاف ولا إنصاف أعظم من الاعتراف للمنعم بإنعامه، والإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك، وقيل يأمر بالعدل في الأفعال والإحسان في الأقوال فلا يفعل إلا ما هو عدل، ولا يقول إلا ماهو حسن {وإيتاء ذي القربى} يعني ويأمر بصلة الرحم وهم القرابة الأدنون والأبعدون منك فيستحب أن تصلهم من فضل ما رزقك الله فإن لم يكن لك فضل فدعاء حسن وتودد {وينهى عن الفحشاء} قال ابن عباس: يعني الزنا. وقال غيره الفحشاء، وما قبح من القول والفعل فيدخل فيه الزنا وغيره من جميع الأقوال والأفعال المذمومة {والمنكر} قال ابن عباس: يعني الشرك والكفر. وقال غيره: المنكر ما لا يعرف في شريعة ولا سنة {والبغي} يعني الكبر والظلم. وقيل: البغي هو التطاول على الغير على سبيل الظلم والعدوان. قال بعضهم: إن أعجل المعاصي البغي ولو أن جبلين بغى أحدهما على الآخر لدك الباغي. وقال ابن عيينة في هذه الآية: العدل استواء السر والعلانية، والإحسان أن تكون سريرته أحسن من علانيته والفحشاء والمنكر البغي، أن تكون علانتيه أحسن من سريريته، وقال بعضهم: إن الله سبحانه وتعالى ذكر من المأمورات ثلاثة أشياء، ومن المنهيات ثلاثة أشياء، فذكر: العدل وهو الإنصاف، والمساواة في الأقوال والأفعال وذكر في مقابلته الفحشاء، وهي ما قبح من الأقوال والأفعال وذكر الإحسان، وهو أن تعفو عمن ظلمك وتحسن إلى من أساء إليك وذكر في مقابلته المنكر، وهو أن تنكر إحسان من أحسن إليك، وذكر إيتاء ذي القربى والمراد به صلة القرابة والتودد إليهم، والشفقة عليهم وذكر في مقابلته البغي، وهو أن يتكبر عليهم أو بظلمهم حقوقهم ثم قال تعالى {يعظكم لعلكم تذكرون} يعني إنما أمركم بما أمركم به ونهاكم عما نهاكم عنه، لكي تتعظوا وتتذكروا فتعملوا، بما فيه رضا الله تعالى. قال ابن مسعود: إن أجمع آية في القرآن لخير وشر هذه الآية. وقال أهل المعاني: لما قال الله تعالى في الآية الأولى، ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء بيَّن في هذه الآية المأمور به والمنهي عنه على سبيل الإجمال، فما من شيء يحتاج إليه الناس في أمر دينهم، مما يجب أن يؤتى أو يترك إلا وقد اشتملت عليه هذه الآية وروى عكرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم، قرأ على الوليد بن المغيرة أنّ الله يأمر بالعدل إلى آخر والآية، فقال له: «يا ابن أخي أعد عليّ» فأعادها عليه فقال له الوليد: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وما هو بقول البشر. قوله عز وجل {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم} لما ذكر الله سبحانه وتعالى في الآية المتقدمة المأمورات والمنهيات على سبيل الإجمال، ذكر هذه الآية بعض ذلك الإجمال على التفصيل فبدأ بالأمر بالوفاء بالعهد، لأنه آكد الحقوق فقال تعالى {وأفوا بعهد الله إذا عاهدتم} نزلت في الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فأمرهم بالوفاء بهذه البيعة، وقيل: المراد منه كل ما يلتزمه الإنسان باختياره، ويدخل فيه الوعد أيضاً لأن الوعد من العهد، وقيل: العهد هاهنا اليمين. قال القتيبي: العهد يمين وكفارته كفارة يمين فعلى هذا يجب الوفاء إذا كان فيه صلاح أما إذا لم يكن فيه صلاح، فلا يجب الوفاء به لقوله صلى الله عليه وسلم: «من حلف يميناً ثم رأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير، وليكفّر عن يمينه» فيكون قوله وأفوا بعهد الله من العام الذي خصصته السنة. وقال مجاهد وقتادة: نزلت في حلف أهل الجاهلية، ويشهد لهذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم: «كل حلف كان في الجاهلية، لم يزده الإسلام إلا شدة» {ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها} يعني تشديدها فتحنثوا فيها وفيه دليل على أن المراد بالعهد غير اليمين لأنه أعم منها {وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً} يعني شهيداً بالوفاء بالعده {إن الله يعلم ما تفعلون} يعني من وفاء العهد ونقضه ثم ضرب الله سبحانه وتعالى مثلاً لنقض العهد فقال تعالى {ولا تكونوا} يعني في نقض العهد {كالتي نقضت غزلها من بعد قوة} يعني من بعد إبرامه وإحكامه. قال الكلبي ومقاتل: هذه امرأة من قريش يقال لها ربطة بن عمرو بن سعد بن كعب بن زيد مناة بن تميم وكانت خرقاء حمقاء بها وسوسة، وكانت قد اتخذت مغزلاً قدر ذراع وصنارة مثل الإصبع وفلكه عظيمة على قدرها، وكانت تغزل الغزل من الصوف، أو الشعر أو الوبر وتأمر جواريها بالغزل فكن يغزلن من الغداة إلى نصف النهار، فإذا انتصف النهار أمرتهن بنقض جميع ما غزلن، فكان هذا دأبها. والمعنى: أن هذه المرأة، لم تكف عن العمل ولا حين عملت كفت عن النقض فكذلك من نقض العهد لا تركه ولا حين عاهد وفى به {أنكاثاً} جمع نكث وهو ما ينقض من الغزل أو الحبل بعد القتل {تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم} يعني دغلاً وخيانة وخديعة والدخل ما يدخل في الشيء على سبيل الفساد، وقيل: الدخل والدغل أن يظهر الرجال الوفاء بالعهد ويبطن نقضه {أن تكون} يعني لأن تكون {أمة هي أربى من أمة} يعني أكثر وأعلى من أمة. قال مجاهد: وذلك أنهم كانوا يحالفون الحلفاء فإذا وجدوا قوماً أكثر من أولئك وأعز نقضوا حلف هؤلاء، وحالفوا الأكثر. والمعنى: أنكم طلبتم العز بنقض العهد لأن كانت أمة أي جماعة أكثر من جماعة فنهاهم الله عن ذلك، وأمرهم بالوفاء بالعهد لمن عاهدوا وحالفوا، {إنما يبلوكم الله به} يعني يختبركم بما أمركم به من الوفاء بالعهد وهو أعلم بكم {وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون} يعني في الدنيا فيثيب الطائع المحق، ويعاقب المسيء الخالف قوله سبحانه وتعالى {ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة} يعني على ملة واحدة ودين واحد، وهو دين الإسلام {ولكن يضل من يشاء} يعني بخذلانه إياه عدلاً منه {ويهدي من يشاء} بتوفيقه إياه فضلاً منه وذلك مما اقتضته الحكمة الإلهية لا يسأل عما يفعل، وهم يسألون، وهو قوله تعالى {ولتسألن عما كنتم تعملون} يعني في الدنيا فيجازى المحسن بإحسانه، ويعاقب المسيء بإساءته أو يغفر له. قوله عز وجل {ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم} يعني خديعة وفساداً بينكم فتغروا بها الناس فيسكنوا إلى أيمانكم، ويأمنوا إليكم ثم تنقضونها. وإنما كرر هذا المعنى تأكيداً عليهم وإظهاراً لعظم أمر نقض العهد. قال المفسرون: وهذا في نهي الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام نهاهم عن نقض عهده، لأن الوعيد الذي بعده وهو قوله سبحانه وتعالى: فنزل قدم بعد ثبوتها لا يليق بنقض عهد غيره، إنما يليق بنقض عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإيمان به وبشريعته وقوله {فتزل قدم بعد ثبوتها} مثل يذكر لكل من وقع في بلاء ومحنة بعد عافية ونعمة أو سقط في ورطة بعد سلامة. تقول العرب لكل واقع في بلاء بعد عافية: زلت قدمه، والمعنى: فتزل أقدامكم عن محجة الإسلام، بعد ثبوتها عليها {وتذوقوا السوء} يعني العذاب {بما صددتم عن سبيل الله} يعني بسبب صدكم غيركم عن دين الله وذلك لأن من نقض العهد، فقد علّم غيره نقض العهد فيكون هو أقدمه على ذلك {ولكم عذاب عظيم} يعني بنقضكم العهد {ولا تشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً} يعني ولا تنقضوا عهودكم وتطلبوا بنقضها عوضاً من الدنيا قليلاً، ولكن أوفوا بها {إنما عند الله} يعني فإن ما عند الله من الثواب لكم على الوفاء بالعهد {هو خير لكم} يعني من عاجل الدنيا {إن كنتم تعلمون} يعني فضل ما بين العوضين ثم بين ذلك فقال تبارك وتعالى {ما عندكم ينفد} يعني من متاع الدنيا، ولذاتها يفنى ويذهب {وما عند الله باق} يعني من ثواب الآخرة ونعيم الجنة {ولنجزين الذين صبروا} يعني على الوفاء بالعهد على السراء والضراء {أجرهم} يعني ثواب صبرهم {بأحسن ما كانوا يعملون} عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب دنياه أضر بآخرته ومن أحب آخرته أضر بدنياه فآثروا ما يبقى على ما يفنى» وقوله سبحانه وتعالى {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن} فإن قلت: من عمل صالحاً يفيد العموم فما فائدة الذكر والأنثى؟ قلت: هو مبهم صالح على الإطلاق للنوعين إلا أنه إذا ذكر وأطلق، كان الظاهر تناوله للذكر دون الأنثى فقيل من ذكر أو أنثى على التبيين، ليعلم الوعد للنوعين جميعاً وجواب آخر وهو أن الآية واردة بالوعد بالثواب والمبالغة في تقرير الوعد، من أعظم دلائل الكرم والرحمة إثباتاً للتأكد وإزالة لِوَهْمِ التخصيص وقوله: وهو مؤمن، جعل الإيمان شرطاً في كون العمل الصالح موجباً للثواب {فلنحيينه حياة طيبة} قال سعيد بن جبير وعطاء: هي الرزق الحلال، وقال مقاتل: هي العيش في الطاعة، وقيل: هي حلاوة الطاعة. وقال الحسن هي القناعة وقيل رزق يوم بيوم، واعلم أن عيش المؤمن في الدنيا، وإن كان فقيراً أطيب من عيش الكافر وإن كان غنياً لأن المؤمن لما علم أن رزقه من عند الله، وذلك بتقديره وتدبيره وعرف أن الله محسن كريم متفضل لا يفعل إلا الصواب، فكان المؤمن راضياً عن الله وراضياً بما قدره الله له ورزقه إياه، وعرف أنه له مصلحة في ذلك القدر الذي رزقه إياه فاستراحت نفسه من الكد والحرص فطاب عيشه بذلك وأما الكافر أو الجاهل بهذه الأصول الحريص على طلب الرزق فيكون أبداً في حزن وتعب وعناء وحرص وكد ولا ينال من الرزق إلا ما قدر له فظهر بهذا أن عيش المؤمن القنوع أطيب من غيره. وقال السدي: الحياة الطيبة إنما تحصل في القبر لأن المؤمن يستريح بالموت من نكد الدنيا وتعبها. وقال مجاهد وقتادة: في قوله فلنحيينه حياة طيبة هي الجنة. وروى العوفي عن الحسن، قال: لا تطيب لأحد الحياة إلا في الجنة لأنها حياة بلا موت، وغنى بلا فقر وصحة بلا سقم وملك بلا هلك وسعادة بلا شقاوة، فثبت بهذا أن الحياة الطيبة لا تكون إلا في الجنة، ولقوله في سياق الآية {ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} لأن ذلك الجزاء إنما يكون في الجنة.
{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)} قوله عز وجل: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم ويدخل فيه غيره من أمته، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان غير محتاج إلى الاستعاذة، وقد أمر بها فغيره أولى بذلك، ولما كان الشيطان ساعياً في إلقاء الوسوسة في قلوب بني آدم وكانت الاستعاذة بالله مانعة من ذلك، فلهذا السبب أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالاستعاذة عند القراءة، حتى تكون مصونة من وسواس الشيطان عن جبير بن مطعم أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة، قال عمر: ولا أدري أي صلاة هي. قال: الله أكبر كبيراً ثلاثاً والحمد لله كثيراً ثلاثاً وسبحان الله بكرة وأصيلاً ثلاثاً وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم من نفخته ونفثته وهمزته. قال: نفخته الكبر ونفثته السحر وهمزته المونة أخرجه أبو داود. المونة الجنون والفاء في قوله فاستعذ بالله للتعقيب. فظاهر لفظ الآية يدل على أن الاستعاذة بعد القراءة، وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين وهو قول أبي هريرة وإليه ذهب مالك وجماعة وداود الظاهري. قالوا: لأن قارئ القرآن يستحق ثواباً عظيماً وربما حصلت الوساوس في قلب القارئ هل حصل له ذلك الثواب أم لا؟ فإذا استعاذ بعد القراءة اندفعت تلك الوساوس وبقي الثواب مخلصاً فأما مذهب الأكثرين من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الأئمة وفقهاء الأمصار، فقد اتفقوا على أن الاستعاذة مقدمة على القراءة، قالوا: ومعنى الآية إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ بالله ومثله قوله سبحانه وتعالى {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم} الخ ومثله من الكلام إذا أردت أن تأكل فقل: بسم الله وإذا أردت أن تسافر فتأهب، وأيضاً فإن الوسوسة إنما تحصل في أثناء القراءة فتقديم الاستعاذة على القراءة، لتذهب الوسوسة عنه أولى من تأخيرها عن وقت الحاجة إليها، ومذهب عطاء أنه تجب الاستعاذة عند قراءة القرآن سواء كانت في الصلاة أو في غيرها، واتفق سائر الفقهاء على أن الاستعاذة عند قراءة القرآن سواء كانت في الصلاة أو في غيرها، واتفق سائر الفقهاء على أن الاستعاذة سنة في الصلاة وغيرها، وقد تقدمت هذه المسألة والخلاف فيها في أول سورة الفاتحة، والاستعاذة: الاعتصام بالله والالتجاء إليه من شر الشيطان ووسوسته. والمراد من الشيطان إبليس. وقيل: هو اسم جنس يطلق على المردة من الشياطين، لأن لهم قدرة على إلقاء الوسوسة في قلوب بني آدم بإقدار الله إياهم على ذلك {إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون} لما أمر الله رسوله صلى الله عليه سلم بالاستعاذة من الشيطان فكأن ذلك أوهم أن له سلطان يعني ليس له قدرة، ولا ولاية على الذين آمنوا، وعلى ربهم يتوكلون، قال سفيان ليس له سلطان على أن يحملهم على ذنب لا يغفر ويظهر من هذا أن الاستعاذة، إنما تفيد إذا حضر بقلب الإنسان كونه ضعيفاً، وأنه لا يمكنه التحفظ من وسوسة الشيطان إلا بعصمة الله ولهذا قال المحققون: لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة إلا بتوفيق الله ثم قال تعالى {إنما سلطانه على الذين يتولونه} يعني يطيعونه ويدخلون في ولايته يقال: توليته إذا أطعته وتوليت عنه إذا أعرضت عنه {والذين هم به مشركون} يعني بالله، وقيل: الضمير في به راجع إلى الشيطان، والمعنى هم من أهله مشركون بالله وقوله سبحانه وتعالى {وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل} وذلك أن المشركين من أهل مكة قالوا: إن محمداً يسخر بأصحابه يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غداً، ماهو إلا مفترٍ يتقوله من تلقاء نفسه فأنزل الله هذه الآية. والمعنى: وإذا نسخنا حكم آية فأبدلنا مكانه حكماً آخر والله أعلم بما ينزل اعتراض دخل في الكلام، والمعنى والله أعلم بما ينزل من الناسخ وبما هو أصلح لخلقه، وبما يغير ويبدل من أحكامه أي هو أعلم بجميع ذلك مما هو من مصالح عباده، وهذا نوع من توبيخ وتقريع للكفار على قولهم للنبي صلى الله عليه وسلم وهو قوله تعالى {قالوا إنما أنت مفتر} أي تختلقه من عندك، والمعنى: إذا كان الله تعالى أعلم بما ينزل فما بالهم ينسبون محمداً إلى الافتراء والكذب لأجل التبديل والنسخ؟ وإنما فائدة ذلك ترجع إلى مصالح العباد، كما يقال: إن الطبيب يأمر المريض بشرب دواء ثم بعد ذلك ينهاه عنه ويأمر بغيره لما يرى فيه من المصلحة {بل أكثرهم لا يعلمون} يعني لا يعلمون فائدة الناسخ وتبديل النسوخ {قل} أي قل لهم يا محمد {نزله} يعني القرآن {روح القدس} يعني جبريل صلى الله عليه وسلم أضيف إلى القدس وهو الطهر كما يقال حاتم الجود وطلحة الخير، والمعنى الروح المقدس المطهر {من ربك} يعني أن جبريل نزل بالقرآن من ربك يا محمد {بالحق ليثبت الذين آمنوا} يعني ليثبت بالقرآن قلوب المؤمنين فيزدادوا إيماناً ويقيناً {وهدى وبشرى} يعني وهو هدى وبشرى {للمسلمين}.
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)} قوله عزو جل: {ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر} وذلك أن كفار مكة قالوا: إنما يتعلم هذه القصص وهذه الأخبار من إنسان آخر وهو آدمي مثله، وليس هو من عند الله كما يزعم فأجابهم الله بقوله ولقد نعلم أنهم يقولون: إنما يعلمه بشر واختلفوا في ذلك البشر من هو فقال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم قيناً بمكة اسمه بلعام وكان نصرانياً أعجمي اللسان فكان المشركون يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليه ويخرج من عنده، فكانوا يقولون إنما يعلمه بلعام. وقال عكرمة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئ غلاماً لبني المغيرة يقال له يعيش فكان يقرأ الكتب؟ فقالت قريش: إنما يعلمه يعيش، وقال محمد بن إسحاق: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني كثيراً ما يجلس عند المروة إلى غلام رومي نصراني عبد لبعض بني الحضرمي يقال له: جبر وكان يقرأ الكتب. وقال عبيد الله بن مسلمة: كان لنا عبدان من أهل عين التمر يقال لأحدهما: يسار ويكنى أبا فكيهة، ويقال للآخر: جبر وكانا يصنعان السيوف بمكة، وكانا يقرآن التوراة والإنجيل بمكة فربما مر بهما النبي صلى الله عليه وسلم وهما يقرآن فيقف ويستمع قال الضحاك: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا آذاه الكفار يقعد إليهما فيتروح بكلامهما، فقال المشركون إنما يتعلم محمد منهما. وقال الفراء: قال المشركون إنما يتعلم محمد من عائش المملوك كان لحويطب بن عبد العزى كان نصرانياً، وقد أسلم وحسن إسلامه وكان أعجمياً، وقيل: هو عداس غلام عتبة بن ربيعة، والحاصل أن الكفار اتهموا رسول الله صلى الله عليه سلم وقالوا إنما يتعلم هذه الكلمات من غيره ثم إنه يضيفها لنفسه ويزعم أنه وحي من الله عز وجل وهو كاذب في ذلك فأجاب الله عنه، وأنزل هذه الآية تكذيباً لهم فيما رموا به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب فقال تعالى {لسان الذي يلحدون إليه} يعني يميلون، ويشيرون إليه {أعجمي} يعني هو أعجمي والأعجمي هو الذي لا يفصح في كلامه، وإن كان يسكن البادية ومنه سمي زياد الأعجم لأنه كان في لسانه عجمة مع أنه كان من العرب، والعجمي منسوب إلى العجم، وإن كان فصيحاً بالعربية والأعرابي الذي يسكن البادية، والعربي الذي يسكن الأمصار من بلاد العرب وهو منسوب إلى العرب {وهذا لسان عربي مبين} يعني بين الفصاحة والبلاغة ووجه الجواب، هو أن الذي يشيرون إليه رجل أعجمي في لسانه عجمة تمنعه من الإتيان بفصيح الكلام ومحمد صلى الله عليه وسلم جاءكم بهذا القرآن الفصيح الذي عجزتم أنتم عنه، وأنتم أهل الفصاحة والبلاغة، فكيف يقدر من هو أعجمي على مثله وأين فصاحة هذا القرآن من عجمة هذا الذي يشيرون إليه، فثبت بهذا البرهان، أن جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وحي أوحاه الله إليه وليس هو من تعليم الذي يشيرون إليه أسلم وحسن إسلامه {إن الذين لا يؤمنون بآيات الله} يعني لا يصدقون أنه من عند الله {لا يهديهم الله} يعني لا يرشدهم ولا يوفقهم للإيمان {إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله} يعني إنما يقدم على فرية الكذب من لا يؤمن بآيات الله فهو رد لقول كفار قريش إنما أنت مفترٍ {وأولئك هم الكاذبون} يعني في قولهم، إنما يعلمه بشر لا محمد صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: قد قال تبارك وتعالى إنما يفترى الكذب فما معنى قوله تعالى وأولئك هم الكاذبون والثاني هو الأول؟ قلت: قوله سبحانه وتعالى إنما يفترى الكذب أخبار عن حال قولهم، وقوله: وأولئك الكاذبون نعت لازم لهم كقول الرجل لغيره كذبت وأنت كاذب، أي كذبت في هذا القول ومن عادتك الكذب وفي الآية دليل على أن الكذب من أفحش الذنوب الكبار لأنه الكذاب المفتري، هو الذي لا يؤمن بآيات الله. روى البغوي بإسناد الثعلبي عن عبد الله بن جراد قال: «قلت يا رسول الله المؤمن يزني؟ قال: قد يكون ذلك. قلت: المؤمن يسرق؟ قال: قد يكون ذلك. قلت: المؤمن يكذب قال: لا قال الله تعالى إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله».
{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)} قوله تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} نزلت في عمار بن ياسر وذلك أن المشركين أخذوه وأباه ياسر وأمه سمية وصهيباً وبلالاً وخباباً وسالماً فعذبوهم ليرجعوا عن الإسلام فأما سمية أم عمار فإنها ربطت بين بعيرين ووجئ قلبها بحربة، فقتلت، وقتل زوجها ياسر فهما أول قتيلين قتلا في الإسلام وأما عمار فإنه أعطاهم بعض ما أرادوا بلسانه مكرهاً. قال قتادة أخذ بنو المغيرة عمار وغطوه في بئر ميمون وقالوا له: اكفر بمحمد فبايعهم على ذلك وقلبه كاره، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عماراً كفر. فقال «كلا إن عماراً مليء إيماناً من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما وراءك قال: شر يا رسول الله نلت منك وذكرت. فقال: كيف وجدت قلبك قال: مطمئناً بالإيمان فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه. وقال: إن عادوا لك فعد لهم بما قلت» فنزلت هذه الآية. وقال مجاهد: نزلت في أناس من أهل مكة آمنوا فكتب إليهم بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن هاجروا إلينا فإنا لا نراكم منا حتى تهاجروا، فخرجوا يريدون المدينة فأدركتهم قريش في الطريق ففتنوهم عن دينهم فكفروا كارهين، وهذا القول ضعيف لأن الآية مكية وكان هذا في أول الإسلام قبل أن يؤمروا بالهجرة، وقال مقاتل: نزلت في جبر مولى عامر ابن الحضرمي أكرهه سيده على الكفر، فكفر مكرهاً وقلبه مطمئن بالإيمان ثم أسلم عامر بن الحضرمي مولى جبر، وحسن إسلامه وهاجر إلى المدينة والأولى أن يقال إن الآية عامة في كل من أكره على الكفر، وقلبه مطمئن بالإيمان، وإن كان السبب خاصاً. فإن قلت: المكره على الكفر ليس بكافر فلا يصح استثناؤه من الكافر، فما معنى هذا الاستثناء لهذه المشابهة والمشاكلة والله أعلم.
فصل في حكم الآية قال العلماء: يجب أن يكون الإكراه الذي يجوز له أن يتلفظ معه بكلمة الكفر أن يعذب بعذاب لا طاقة له به، مثل التخويف بالقتل والضرب الشديد والإيلامات القوية، مثل التحريق بالنار ونحوه. قال العلماء: أول من أظهر الإسلام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة: أبو بكر وخباب وصهيب وبلال وعمار وأبوه ياسر وأمه سمية فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله من أذى المشركين بعمه أبي طالب وأما أبو بكر، فمنعه قومه وعشيرته وأخذ الآخرون، وألبسوا أدراع الحديد وأجلسوا في حر الشمس بمكة، فأما بلال فكانوا يعذبونه وهو يقول أحد أحد حتى اشتراه أبو بكر وأعتقه وقتل ياسر وسمية كما تقدم. وقال خباب: لقد أوقدوا لي ناراً ما أطفأها إلا ودك ظهري. وأجمعوا على أن من أكره على الكفر لا يجوز له أن يتلفظ بكلمة تصريحاً بل يأتي بالمعاريض، وبما يوهم أنه كفر، فلو أكره على التصريح يباح له ذلك بشرط طمأنينة القلب على الإيمان غير معتقد، ما يقوله من كلمة الكفر ولو صبر حتى قتل كان أفضل لأن ياسراً وسمية قتلا ولم يتلفظا بكملة الكفر، ولأن بلالاً صبر على العذاب ولم يلم على ذلك. قال العلماء: من الأفعال ما يتصور الإكراه عليها كشرب الخمر وأكل لحم الخنزير، والميتة ونحوها فمن أكره بالسيف أو القتل على أن يشرب الخمر أو يأكل الميتة أو لحم الخنزير أو نحوها، جاز له ذلك لقوله تعالى {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} وقيل: لا يجوز له ذلك ولو صبر كان أفضل، ومن الأفعال ما لا يتصور الإكراه عليه كالزنا لأن الإكراه يوجب الخوف الشديد، وذلك يمنع انتشار الآلة فلا يتصور فيه الإكراه واختلف العلماء في طلاق المكره، فقال الشافعي رضي الله تعالى عنه واكثر العلماء: لا يقع طلاق المكره. وقال أبو حنيفة: يقع. حجة الشافعي ومن وافقه قوله سبحانه وتعالى: {لا إكراه في الدين} ولا يمكن أن يكون المراد نفي ذاته، لأن ذاته موجودة فوجب حمله على نفي آثاره والمعنى أنه لا أثر له ولا عبرة به، وقوله تعالى {وقلبه مطمئن بالإيمان} فيه دليل على أن محل الإيمان هو القلب {ولكن من شرح بالكفر صدراً} يعني فتحه ووسعه لقبول الكفر واختاره ورضي به {فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم} يعني في الآخرة {ذلك بأنهم استحبّوا الحياة الدنيا على الآخرة} يعني يكون ذلك الإقدام على الارتداد إلى الكفر، لأجل أنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة {وأن الله لا يهدي القوم الكافرين} يعني لا يرشدهم إلى الإيمان ولا يوفقهم للعمل به {أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم} تقدم تفسيره {وأولئك هم الغافلون} يعني عما يراد بهم من العذاب في الآخرة وهو قوله سبحانه وتعالى {لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون} يعني أن الإنسان إنما يعمل في الدنيا، ليربح في الآخرة فإذا دخل النار بان خسرانه وظهر غبنه لأنه ضيع رأس ماله، وهو الإيمان ومن ضيع رأس ماله فهو خاسر. قوله عز وجل {ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا} يعني عذبوا ومنعوا من الدخول في الإسلام فتنهم المشركون {ثم جاهدوا وصبروا} على الإيمان والهجرة والجهاد {إن ربك من بعدها} يعني من بعد الفتنة التي فتنوها {لغفور رحيم} نزلت هذه الآية في عياش بن ربيعة وكان أخا أبي جهل من الرضاعة، وقيل كان أخاه لأمه وفي أبي جندل بن سهيل بن عمرو والوليد بن الوليد بن المغيرة، وسلمة بن هشام وعبد الله ابن أسد الثقفي فتنهم المشركون، وعذبوهم فأعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرهم ثم إنهم بعد ذلك هاجروا وجاهدوا. وقال الحسن وعكرمة: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي سرح كان قد أسلم، وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فاستنزله الشيطان، فارتد ولحق بدار الحرب فلما كان يوم فتح مكة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله فاستجاره عثمان، وكان أخاه لأمه فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وحسن إسلامه وهذا القول إنما يصح إذا قلنا: إن هذه الآية مدنية نزلت بالمدينة فتكون من الآيات المدنيات في السور المكيات، والله أعلم بحقيقة ذلك قوله سبحانه وتعالى {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها} يعني تخاصم وتحتج عن نفسها أي بما أسفلت من خير وشر، واشتغلت بالمجادلة لا تتفرغ إلى غيرها. فإن قلت: النفس هي نفس واحدة، وليس لها نفس أخرى فما معنى قوله كل نفس تجادل عن نفسها؟ قلت: إن النفس قد يراد بها بدن الإنسان، وقد يراد بها مجموع ذاته وحقيقته فالنفس الأولى هي مجموع ذات الإنسان وحقيقته والنفس الثانية، هي بدنه فهي عينها وذاتها أيضاً، والمعنى: يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته، ولا يهمه غيره ومعنى هذه المجادلة الاعتذار بما لا يقبل منه كقولهم والله ربنا ما كنا مشركين، ونحو ذلك من الاعتذارات {وتوفى كل نفس ما عملت} يعني جزاء ما عملت في الدنيا من خير أو شر {وهم لا يظلمون} يعني لا ينقصون من جزاء أعمالهم شيئاً، بل يوفون ذلك كاملاً من غير زيادة ولا نقصان. روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لكعب الأحبار: خوفنا فقال يا أمير المؤمنين والذي نفسي بيده لو وافيت القيامة بمثل عمل سبعين نبياً، لأتت عليك ساعات وأنت لا يهمك إلا نفسك وإن جهنم لتزفر زفرة ما يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه حتى إبراهيم خليل الرحمن يقول: يا رب لا أسألك إلا نفسي، وإن تصديق ذلك فيما أنزل الله تعالى يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها. وروىعكرمة عن ابن عباس في هذه الآية قال: ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة حتى تخاصم الروح الجسد، فتقول الروح: يا رب لم تكن لي أيدٍ أبطش بها، ولا رجل أمشي بها ولا عين أبصر بها، ويقول الجسد: يا رب خلقتني كالخشبة، ليست لي يد أبطش بها، ولا رجل أمشي بها ولا عين أبصر بها فجاء هذا الروح كشعاع النور فيه نطق لساني، وبه أبصرت عيناني وبه مشت رجلاي فضرب الله لهما مثلاً أعمى ومقعد دخلا حائطاً، يعني بستاناً فيه ثمار فالأعمى لا يبصر الثمار والمقعد لا يناله فحمل الأعمى المقعد فأصابا من الثمر فعليهما العذاب. قوله عز وجل {وضرب الله مثلاً قرية} المثل عبارة عن قول في شيء يشبه قولاً من شيء آخر بينهما مشابهة، ليبين أحدهما الآخر ويصوره، وقيل: هو عبارة عن المشابهة لغيره في معنى من المعاني أي معنى كان وهو أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة، قال الإمام فخر الدين الرازي: المثل قد يضرب بشيء موصوف بصفة معينة سواء، كان ذلك الشيء موجوداً أو لم يكن وقد يضرب بشيء موجود معين، فهذه القرية التي ضرب الله بها هذا المثل يحتمل أن تكون شيئاً مفروضاً، ويحتمل أن تكون قرية معينة، وعلى التقدير الثاني فتلك القرية يحتمل أن تكون مكة أو غيرها والأكثر من المفسرين على أنها مكة، والأقرب أنها غير مكة لأنها ضربت مثلاً لمكة ومثل مكة يكون غير مكة، وقال الزمخشري في كتابه الكشاف: وضرب الله مثلاً قرية أي جعل القرية التي هذه حالها، مثلاً لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة فكفروا وتولوا فأنزل الله بهم نقمته، فيجوز أن تراد قرية مقدرة على هذه الصفة، وأن تكون في قرى الأولين قرية كانت هذه حالها، فضرب الله مثلاً لمكة إنذاراً من مثل عاقبتها وقال الواحدي: ضرب المثل ببيان المشبه والمشبه به، وهاهنا ذكر المشبه به ولم يذكر المشبه لوضوحه عند المخاطبين، والآية عند عامة المفسرين نازلة في أهل مكة وما امتحنوا به من الخوف والجوع بعد الأمن، والنعمة بتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم فتقدير الآية ضرب الله مثلاً لقريتكم أي بين الله لها شبهاً ثم قال: قرية فيجوز أن تكون القرية بدلاً من مثلاً لأنها هي الممثل بها، ويجوز أن يكون المعنى ضرب الله مثلاً، مثل قرية فحذف المضاف هذا قول الزجاج والمفسرون كلهم قالوا: أراد بالقرية مكة يعنون أنه أراد مكة في تمثيلها بقرية صفتها ما ذكر. وقال ابن الجوزي: في هذه القرية قولان: أحدهما أنها مكة قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والجمهور وهو الصحيح، والثاني أنها قرية أوسع الله على أهلها حتى كانوا يستنجون بالخبز فبعث الله عليهم الجوع، قاله الحسن. وأقول: هذه الآية نزلت بالمدينة في قول مقاتل وبعض المفسرين، وهو الصحيح لأن الله سبحانه وتعالى وصف هذه القرية بصفات ستة كانت هذه الصفات موجودة في أهل مكة، فضربها الله مثلاً لأهل المدينة يحذرهم أن يصنعوا مثل صنيعهم، فيصيبهم ما أصابهم من الجوع والخوف، ويشهد لصحة ما قلت إن الخوف المذكور في هذه الآية في قوله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف هو البعوث والسرايا التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعثها في قول جميع المفسرين لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بالقتال، وهو بمكة وإنما أُمر بالقتال لما هاجر إلى المدينة، فكان يبعث البعوث والسرايا إلى حول مكة يخوّفهم بذلك، وهو بالمدينة والله أعلم بمراده، وأما تفسير قوله تعالى: وضرب الله مثلاً قرية يعني مكة {كانت آمنة} يعني ذات أمن لا يهاج أهلها ولا يغار عليهم {مطمئنة} يعنى قارة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها للانتجاع كما كان يحتاج إليه سائر العرب {يأتيها رزقها رغداً} يعني واسعاً {من كل مكان} يعني يحمل إليها الرزق والميرة من البر والبحر. نظيره قوله سبحانه وتعالى تجبى إليه ثمرات كل شيء وذلك بدعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم وهو قوله {وارزق أهله من الثمرات} {فكفرت} يعني هذه القرية والمراد أهلها {بأنعم الله} جمع نعمة والمراد بها سائر النعم التي أنعم الله بها على أهل مكة فلما قابلوا نعم الله التي أنعم بها عليهم بالجحود والكفر، لا جرم أن الله تعالى انتقم منهم فقال تعالى {فأذاقها الله لباس الجوع والخوف} وذلك أن الله سبحانه وتعالى ابتلاهم بالجوع سبع سنين، فقطع عنهم المطر وقطعت عنهم العرب الميرة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جهدوا فأكلوا العظام المحرقة والجيف الكلاب والميتة والعهن، وهو الوبر يعالج بالدم ويخلط به حتى يؤكل، حتى كان أحدهم ينظر إلى السماء فيرى شبه الدخان من الجوع ثم إن رؤساء مكة كلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وقالوا: ما هذا هبك عاديت الرجال فما بال النساء والصبيان، فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حمل الطعام إليهم وهم بعد مشركون. والخوف يعني خوف بعوث النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه التي كان يبعثها للإغارة فكانت تطيف بهم وتغير على من حولهم من العرب فكان أهل مكة يخافونهم. فإن قلت: الإذاقة واللباس استعارتان فما وجه صحتهما، والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس المستعار فما وجه صحة أيقاعها عليه، وهو أن اللباس لايذاق بل يلبس، فيقال كساهم الله لباس الجوع أو يقال فأذاقهم الله طعم الجوع قلت: قال صاحب الكشاف: أما الإذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد، وما يمس الناس منها فيقولون ذاق فلان البؤس والضر وأذاقه العذاب شبه ما يدرك من أثر الضرر، والألم بما يدرك من طعم المر البشع وأما اللباس فقد شبه به لاشتماله على اللابس ما غشي الأنسان، والتبليس به من بعض الحوادث وأما ايقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف، فلأنه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس فكأنه قيل فأذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف، ثم ذكر بعده من علم المعاني والبيان ما يشهد لصحة ما قال. وقال الإمام فخر الدين الرازي: جوابه من وجوه، الأول، أن الأحوال التي حصلت لهم عند الجوع نوعان: أحدهما أن المذوق هو الطعام فلما فقدوا الطعام صاروا كأنهم يذوقون الجوع. والثاني، أن ذلك الجوع كان شديداً كاملاً فصار كأنه أحاط بهم من كل الجهات فأشبه اللباس، والحاصل أنه حصل لهم في ذلك الجوع حالة تشبه المذوق، وحالة تشبه الملبوس فاعتبر الله كلا الاعتبارين فقال فأذاقهما الله لباس الجوع والخوف، الوجه الثاني: أن التقدير أن الله عرفها أثر لباس الجوع والخوف إلا أنه تعالى عبر عن التعريف بلفظ الإذاقة، وأصل الذوق بالفم ثم قد يستعار فوضع موضع التعرف، وهو الاختبار تقول ناظر فلاناً وذاق ما عنده: ومن يذق الدنيا طعمتها *** وسيق إلينا عذبها وعذابها ولباس الجوع والخوف ما ظهر عليهم من الضمور، وشحوب اللون ونهكة البدن وتغيير الحال وكسوف البال، كما تقول: تعرفت سوء أثر الجوع والخوف على فلان، كذلك يجوز أن تقول: ذقت لباس الجوع والخوف على فلان. الوجه الثالث: أن يحمل لفظ الذوق واللبس على المماسة، فصار التقدير فأذاقها الله مساس الجوع والخوف ثم قال تعالى {بما كانوا يصنعون} ولم يقل بما صنعت لأنه أراد أهل القرية، والمعنى: فعلنا بهم ما فعلنا بسبب ما كانوا يصعنون وهذا مثل أهل مكة لأنهم كانوا في الأمن والطمأنينة والخصب ثم أنعم الله عز وجل عليهم بالنعمة العظيمة وهي إرسال محمد صلى الله عليه وسلم وهو منهم فكفروا به وكذبوه وبالغوا في إيذائه، وأرادوا قتله فأخرجه الله من بينهم وأمره بالهجرة إلى المدينة وسلط على أهل مكة البلاء والشدائد والجوع والخوف كل ذلك بسبب تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخروجه من بين أظهرهم. قوله سبحانه وتعالى {ولقد جاءهم} يعني أهل مكة {رسول منهم} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم يعرفون نسبه، ويعرفونه قبل النبوة وبعدها {فكذبوه فأخذهم العذاب} يعني الجوع والخوف وقيل القتل يوم بدر، والقول الأول أولى لما تقدم في الآية {وهم ظالمون} يعني كافرون {فكلوا مما رزقكم الله} في المخاطبين بهذا قولان: أحدهما، أنهم المسلمون، وهو قول جمهور المفسرين، والثاني، أنهم هم المشركون من أهل مكة. قال الكلبي: لما اشتد الجوع بأهل مكة كلم رؤساؤهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنك إنما عاديت الرجال فما بال النساء والصبيان؟ فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحملوا الطعام إليهم حكاه الواحدي وغيره والقول الأول هو الصحيح. قال ابن عباس فكلوا يا معشر المؤمنين مما رزقكم الله يريد الغنائم {حلالاً طيباً} يعني أن الله سبحانه وتعالى أحل الغنائم لهذه الأمة وطيبها لهم ولم تحل لأحد قبلهم {واشكروا نعمة الله} يعني التي أنعم بها عليكم {إن كنتم إياه تعبدون إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم} تقدم تفسير هذه الآية وأحكامها في سورة البقرة فلم نعده هنا، وقوله تعالى {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب} يعني ولا تقولوا لأجل وصفكم الكذب {هذا حلال وهذا حرام} يعني أنكم تحلون وتحرمون لأجل الكذب لا لغيره فليس لتحليلكم وتحريمكم معنى وسبب إلا الكذب فقط، فلا تفعلوا ذلك. قال مجاهد: يعني البحيرة والسائبة. وقال ابن عباس: يعني قولهم ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا، ومحرم على أزواجنا وذلك أن العرب في الجاهلية كانوا يحلون أشياء ويحرمون أشياء من عند أنفسهم، وينسبون ذلك إلى الله تعالى وهو قوله تعالى {لتفتروا على الله الكذب} يعني لا تقولوا إن الله أمرنا بذلك فتكذبوا على الله لأن وصفهم الكذب هو افتراء على الله ثم توعد المفترين للكذب فقال سبحانه وتعالى {إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون} يعني: لا ينجون من العذاب، وقيل: لا يفوزون بخير لأن الفلاح هو الفوز بالخير والنجاح ثم بين أن ما هم فيه من نعيم الدنيا يزول عنهم عن قريب فقال تعالى {متاع قليل} يعني متاعهم في الدنيا قليل فإنه لا بقاء له {ولهم عذاب إليم} يعني في الآخرة.
|